في لبنان: الأسوأ من الأزمة .. إدارة الأزمة
أنطوان فرح / كاتب وخبير اقتصادي
حوالي 4 سنوات مرّت على واحدة من أكبر الأزمات المالية والإقتصادية في لبنان والعالم، وما زالت الدولة اللبنانية تقف موقف المتفرج على وجع الناس الذين خسروا مدخراتهم والقيمة الشرائية لرواتبهم، كما بات الكثير منهم يقف على أبواب الحرمان والفقر المدقع. أما مصرف لبنان فقد اكتفى بإصدار بعض التعاميم والقرارات العشوائية التي عمّقت الأزمة بدل أن تحلّها. مجلتنا التقت الخبير الإقتصادي أنطوان فرح الذي أعطانا شرحاً مفصلاً عن كافة حيثيات الأزمة منذ حدوثها وحتى اليوم:
من المسؤول عن الإنهيار؟ الدولة، مصرف لبنان أم المصارف؟
تقع المسؤولية بالدرجة الأولى على عاتق الدولة اللبنانية وثانياً على مصرف لبنان، وثالثاً على المصارف، مع العلم أن الفرق شاسع بين مسؤولية الدولة ومصرف لبنان ومسؤولية المصارف. ففي الحقيقة الدولة هي التي رسمت على مرّ السنوات السياسات الإقتصادية للبلد بما فيها السياسة النقدية (التي من المفترض أن يكون مصرف لبنان مستقلاً فيها)، الاّ أن الدولة والحكومات المتعاقبة كانت على تنسيق مع المركزي في فرض سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، وكان الجميع مستعدّاً ضمنياً لدفع ثمن هذا التثبيت مهما كلّف الأمر، حتى وصلنا الى الإنهيار الكبير أواخر العام 2019.
ومن ناحية أخرى فإن المصارف هم أيضاً يتحملون جزءاً من المسؤولية لتغافلهم عن المخاطر الكبيرة التي ارتكبوها عبر إقراض الدولة، الا أن مسؤوليتهم تبقى جزئية. وهنا نشرح كيف أن المصارف انغمست في سياسات الدولة النقدية إن إختيارياً أو حتى قسرياً في بعض الأحيان: فعندما أطلق حاكم مصرف لبنان هندساته المالية الشهيرة، فإن المصارف التي رفضت الدخول بها باعتبار أن مخاطرها عالية، أضطرت في ما بعد الى تعديل سياستها ومجارات الوضع المستجدّ، لأن المصارف الأخرى التي تبنت الهندسات رفعت فوائدها الى أكثر من 15% سنوياً لجذب المزيد من الودائع، وكان بإمكانها تنفيذ ذلك لأنها حصلت بدورها على فوائد ضخمة من المركزي، وبالتالي فإن المصارف التي لم تشارك بالهندسات لم تعد قادرة على مجارات المصارف الأخرى بالفوائد العالية، وأصبح المودعون ينسحبون من عندها، فاضطرت ملزمة الى إعادة المشاركة بالهندسات والا فإن مصيرها كان سيكون الخروج من السوق. ومن ناحية أخرى فإن بعض المصارف في فترة من الفترات بدأت تضغط على الدولة لوقف إقراضها، الا أن السلطات المافياوية هددت أصحابها بالسجن إن لم يمتثلوا لسياساتها، وفي النهاية رضخت جميع المصارف لسياسات الدولة والمركزي إن قسرياً أو طمعاً بالفوائد العالية التي كانوا يحصلون عليها.
وضع المصارف منذ بداية الأزمة وحتى اليوم
واليوم فإن المصارف اللبنانية التي كانت مثالاً يحتذى به على صعيد العالم، من المؤكّد أنها بعد حوالي 4 سنوات على بداية الأزمة، بدأ وضعها يتراجع وسيتراجع أكثر مع مرور الوقت. فالمصارف منذ الأزمة باتت بموقف سلبي ولم يعد القرار بيدها، بل بيد مصرف لبنان الذي يصدر التعاميم التي تنظم العمل وسحب الودائع في المرحلة الراهنة. ورغم أن المصارف خسرت رساميلها وزبائنها وثقة الناس بالقطاع عموماً، الا أنه لا يمكن أن نقول أنها مفلسة، لأنها ما زالت ملتزمة بتطبيق كافة التعاميم.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي
واليوم لا يمكننا التحدّث عن إعادة هيكلة للقطاع المصرفي قبل أن تطرح الدولة خطة التعافي الخاصة بها وآلية ردّ أموال المصارف التي تصل الى حدود الـ 85 مليار دولار. وهنا يوجد 3 سيناريوهات:
- أن تقرر الدولة شطب كافة ديونها، معناه أن على القطاع المصرفي السلام لأنه ما عاد يمتلك أي سيولة أو رساميل.
- أن تقرر الدولة دفع جزء من ديونها، وهنا يدرس وضع كل مصرف على حدا، إذا كان بإمكانه الإستمرار أم لا.
- أن تقرر الدولة دفع كل ديونها، معناه أن كافة المصارف تقريباً لن يكون لديها مشكلة، وهنا يمكن البدء بعملية إعادة الهيكلة. فالقطاع المصرفي اللبناني رغم كل شيء ما زال قابلاً لاستعادة الحياة والإنطلاق من جديد بقوته المعهودة، حيث ما زال يحتوي على بنية تحتية متينة وحوالي 18 ألف موظف من أهم الكفاءات المصرفية إضافة الى معرفة كبير في إدارة القطاع ولا ننسى تجارب العديد من المصارف الناجحة عبر فروعها خارج لبنان. ومن ناحية أخرى فإن جميع أصحاب المصارف ما زالوا متمسكين بمصارفهم، ومستعدون لإعادة رسملتها والإنطلاق من جديد إذا اعطوا مناخاً إيجابياً.
لكن كيف يمكن لدولة منهارة أن تردّ ديونها؟
إذا وجدت النّية، هناك العديد من الحلول التي يمكن للدولة أن تعتمدها لاسترجاع هيبتها وبناء إقتصاد متين يليق بها وبمواطنيها وردّ ديونها. ومن أبرز الحلول: أن تعيّن الدولة إدارة خاصة على كافة قطاعاتها، وهذا النموذج موجود في العديد من الدول ومنها الأردن على سبيل المثال، التي بعد أن خصخصت إدارة مطار الملكة علياء الدولي لشركة أجنبية، تضاعف مدخولها من هذا القطاع عدّة مرات. الا أنني في هذه الأجواء السياسية لا أرى أي أمل للتوجه الى هكذا حلّ.
الأسوأ من الأزمة .. إدراة الأزمة
والمؤسف أن الدولة اللبنانية التي كان دورها مغيباً نهائياً قبل الأزمة، وتسببت بالأزمة، ما زال دورها مغيباً اليوم حتى في إدارة الأزمة التي تعتبر أخطر وفيها إرتكابات أكثر بكثير من الأزمة نفسها. فبدل أن تُعلن الدولة حالة الطورئ وتصدر التشريعات المنظمة للوضع الجديد، هدرت منذ بداية الأزمة حوالي الـ 50 مليار دولار من أموال المودعين، التي كان مصرف لبنان يحتفظ بها على شكل إحتياطات إلزامية، وذلك على الدعم، وتسديد القروض على سعر الـ 1500 ليرة للدولار، وبيع الدولار على منصة صيرفة بسعر أقل من سعر السوق السوداء، وكلها قرارات إعتباطية وعشوائية لم توفي الهدف منها، حيث ذهب أغلب الدعم للتجار والمهربين وأصحاب الشركات ورؤوس الأموال الكبرى وليس للمواطن المنكوب، بينما كان من الأرجح أن تعاد الأموال الى المودعين أنفسهم، وبالتالي يحلّ جزء كبير من المشكلة. واليوم إذا استمرت الدولة بإدارة الوضغ بهذا النهج يمكن أن تضطر للمساس بإحتياطي الذهب أيضاً، وعندها على الدنيا السلام.
وهنا فلنأخذ مقاربة الولايات المتحدة على سبيل لأزمة انهيار مصرف “سيليكون فالي”، حيث صنفت الحكومة الأزمة على أنها أزمة نظامية (رغم أنها أزمة مصرف واحد وليست أزمة على مستوى القطاع المصرفي ككل)، وطبًقت عليها تشريعات خاصة لحماية المودعين واتخاذ الإجراءات المنصفة بحق المصرف المتعثّر، حيث اعتبرت أنه ليس هو المسؤول الوحيد والمباشر عن أزمته. فإذا كانت أزمة مصرف واحد وأتخذتها السلطات الأميركية بهذه الجدية، فكيف لبنان الذي يعاني بالتأكيد من أزمة نظامية فعلية، حيث الدولة هي التي انهارت أولاً وأعلنت تخلفها عن الدفع؟ فلو أن هذه الدولة اتخذت الإجراءات اللازمة منذ بداية الأزمة، لكان الوضع اختلف تماماً.
من ناحية أخرى، في اليونان وقبرص عندما حصلت الأزمات الإقتصادية والمالية وهرع المواطنون لسحب أموالهم، صحيح أن المصارف أغلقت أبوابها أمامهم، الا أن السلطات المعنيّة كانت في هذا الوقت مجتمعة لإصدار التشريعات الجديدة الخاصة بالأزمة ومن أبرزها قانون “الكابيتال كنترول”، وبالتالي عندما عادت المصارف وفتحت أبوابها، كان السوق قد تغير ليجاري الوضع الجديد. مثال آخر على ذلك، أزمة مصرف Credit Swiss، حيث سهر المعنيون يومي السبت والأحد وأتمّوا صفقة بيع المصرف المنهار لمصرف UBS، وهكذا عندما فتحت الأسواق المالية نهار الإثنين كان الوضع أشبه بالطبيعي وغير مضطرب. أما في لبنان عندما أغلفت المصارف أبوابها، كان هنا دور الدولة بأن تدخل على الخطّ وتتخذ الإجراءات المناسبة، حتى عندما تعود المصارف وتفتح أبوابها يكون الوضع تحت السيطرة وهناك قانون للكابيتال كنترول، والأمور تمشي بسياقها الجديد والذي يناسب المرحلة الجديدة، ولو طبق هذا الأمر، لكان المشهد اختلف تماماً اليوم.
أين ذهبت الأموال؟
وإذا درسنا كيف هدرت الأموال نرى بكل بساطة أن تلك الأموال كانت تمرّ بالحلقة التالية: المصارف التجارية، مصرف لبنان، وأخيراً الدولة التي عندما تحصل على الأموال تنفق قسماً وتهدر قسماً وتسرق قسماً، وهكذا تنتهي القصة. وإذا أخذنا عجز الموازنة على مدار 20 سنة بمعدل 3 مليارات سنوياً نحصل على مجموع 60 مليار دولار، وهذا المبلغ هو الفجوة المالية التي تسببت بالأزمة.
سيناريوهات المستقبل
السيناريو الإيجابي: ويقوم على إمكانية خلق إتفاق سياسي شامل بين جميع الأطراف، يتم على أساسه انتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة وقائد للجيش وحاكم للمصرف المركزي، خصوصاً إذا ترافق ذلك مع الأجواء الإيجابية لاستخراج النفط حيث أن شركة توتال العالمية تعتزم التنقيب عن الغاز، كما أن القطريين يبدون استعدادهم أيضاً للدخول على خطّ التنقيب، الأمر الذي قد يساعدنا على استعادة العلاقات الجيدة مع دول الخليج ككل، وبالتالي يمكن للبلد أن ينتقل بسرعة من مشهد لآخر، وعندها يصار أيضاً الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي لا بدّ أن يفرض علينا حدّاً أدنى من الإصلاحات، وبالتالي ستتدفق الأموال بسرعة، وسيعود البلد وينتعش من جديد، خصوصاً أن الإهتمام الدولي بلبنان ما زال موجوداً.
السيناريو السلبي: أن يستمرّ الوضع على ما هو عليه اليوم، خصوصاً إذا لم يكن هناك إتفاق خارجي على إنقاذ لبنان، وبالتالي فأن البلد سيستنزف ويضمحلّ، ونضطّر للمساس بإحتياطي الذهب، وسيتدهور الوضع الى درك لا قعر له، ونصل الى حالة من الفقر قريبة من المجاعة.