مستقبل إعمار القطاع المصرفي السوداني في ظل تحديات ما بعد الحرب

د. مروة فؤاد قباني / خبير تخطيط استراتيجي وتحول رقمي
30 كانون الأول 2025
مقالات
مشاركة

يلعب النظام المصرفي السوداني دوراً محورياً في الاقتصاد الوطني، إذ يُعد أحد الركائز الأساسية لتجميع المدخرات وتوجيهها نحو الاستثمار والإنتاج والتجارة الخارجية. كما يضطلع القطاع المصرفي بدور مؤثر في صياغة وتنفيذ السياسات النقدية وتنظيم دورة رأس المال، بالاعتماد على التقنيات المصرفية الحديثة لمواكبة التطورات الإقليمية والدولية.

 

أولاً: جذور التحديات التاريخية

واجه القطاع المصرفي السوداني تحديات هيكلية عميقة منذ فرض الحظر الاقتصادي على السودان خلال الفترة (1997–2017)، والذي أدى إلى عزل المصارف السودانية عن النظام المالي العالمي، وتوقف التعامل مع البنوك المراسلة، وتعطّل التحويلات المالية عبر شبكةSWIFT  كما توقف معظم المراسلين الخارجيين عن التعامل مع السوق السوداني، الأمر الذي تسبب في توقف أو تراجع عدد كبير من الأنظمة المصرفية والأنشطة المرتبطة بها.

 

ثانياً: خارطة التحول التقني قبل الحرب

رغم التحديات، شرع بنك السودان المركزي واتحاد المصارف السوداني في تنفيذ خطوات إستراتيجية مبكرة لتحديث البنية التحتية المصرفية، من أبرزها:

• تأسيس شركة تشغيل الخدمات المصرفية الإلكترونية لتشغيل الأنظمة القومية في العام 2000 نيابة عن المصارف والبنك المركزي.

• إنشاء شبكة المعلومات المصرفية وربط المصارف ببعضها البعض في العام 2001.

• ربط المصارف السودانية بالعالم الخارجي عبر مركز SWIFT  في العام 2002 من خلال مجلس مستخدمي سويفت السودان، بعضوية جميع المصارف تحت مظلة اتحاد المصارف السوداني.

• في العام 2006، تم إطلاق نظام المحول القومي لتوحيد منصات المصارف مركزياً، وربط الصرافات الآلية (ATM)، ونقاط البيع (POS)، وتطبيقات التجار والعملاء، مع نشر البطاقات المصرفية وبطاقات المحافظ الإلكترونية (Cash Card) . كما تم ربط المحول القومي إقليمياً عبر شبكة 123  للسحب الدولي مع أكثر من 30 دولة عربية وأفريقية، إضافة إلى إتاحة الربط مع الشبكة الصينية CUPS.

• أُطلق نظام المقاصة الإلكترونية في العام 2007 ليربط جميع المصارف وفروعها مركزياً في العاصمة والولايات، معتمداً على تبادل صور الشيكات، مما قلّص زمن التحصيل إلى دقائق معدودة، وأسهم في رفع كفاءة النظام المصرفي وتعزيز التوجه نحو الشمول المالي.

• في العام 2011، تحقق تكامل بين أنظمة المصارف وشركات الاتصالات عبر تقنية USSD  ونظام الدفع عبر الهاتف المحمول، ما أتاح فتح محافظ رقمية دون الحاجة إلى حساب مصرفي تقليدي، وأسهم في مضاعفة قاعدة العملاء ورفع نسبة الشمول المالي إلى نحو 10% من إجمالي السكان.

• في العام 2013، سارع السودان الى إنشاء مركز خارجي بديل لمعالجة التحويلات المالية عبر بوابة دولية قائمة على تقنيات الحوسبة السحابية (Cloud Gateway)، مع اعتماد رمز الحساب المصرفي الدولي الموحد IBAN  لدى جمعية سويفت، بما أسهم في تسريع التحويلات وتقليل تكلفتها والحد من الاعتماد على الوسطاء.

• كما اتجهت الدولة في العام 2015 نحو تطبيق الحكومة الإلكترونية، وربط أنظمة التحصيل الحكومي بالمحول القومي، وتحويل الإيصالات الورقية إلى إيصالات إلكترونية مبرئة للذمة، مع إشراك شركات القطاع الخاص المرخصة في تقديم خدمات التحصيل الإلكتروني، مما أسهم في تقليل الدورة المستندية والفاقد من الإيرادات.

 

ثالثاً: أثر الحرب على النظام المصرفي السوداني

أدى اندلاع الحرب في أبريل 2023 إلى تدمير واسع للبنية التحتية المصرفية، وتوقف شبه كامل للأنظمة القومية، ودخول الاقتصاد في حالة انكماش حاد، مصحوبة بفقدان الثقة وانفلات السيولة.

تعرضت المصارف لخسائر جسيمة شملت:

• نهب وتدمير عشرات الفروع، خاصة في العاصمة والولايات المتأثرة.

• فقدان الأرشيفات والمستندات وبيانات العملاء والضمانات.

• توقف أنظمة المقاصة الإلكترونية، والدفع عبر الهاتف، والمحول القومي، ونظام التحويلات الآنية (سراج).

كما أدى ذلك إلى خروج أكثر من 6 بنوك أجنبية من السودان، وتراجع الثقة بين العملاء والمصارف، وسحب جماعي للودائع عند أول فرصة لإعادة فتح الفروع في الولايات الآمنة، مما زاد الضغط على السيولة النقدية وأضعف قدرة المصارف على الوفاء بالتزاماتها.

 

رابعاً: سياسات التعافي بعد الحرب في القطاع المصرفي السوداني

في مواجهة هذه التحديات، اتخذ بنك السودان المركزي حزمة من الإجراءات، أبرزها:

• استبدال العملة في يناير 2024 لفئتي (500 و1000 جنيه) في الولايات الآمنة.

• إلزام المصارف بإعادة تشغيل التطبيقات المصرفية لتقليل التداول النقدي، حيث بلغت نسبة المصارف العاملة بالتطبيقات نحو 65% خلال العام الأول بعد الحرب.

• نقل غرف البيانات إلى ولايات آمنة، وإنشاء غرف بيانات سحابية خارجية لضمان استمرارية الخدمات.

• كما قامت شركة الخدمات المصرفية الإلكترونية (الذراع التقني للبنك المركزي) بتشغيل نظام وسيط Middleware  كبديل مؤقت للمحول القومي في يوليو 2024، لتفعيل التحويلات بين المصارف باستخدام رقم IBAN، على أن يُعاد تشغيل المحول القومي والصرافات الآلية ونقاط البيع بشكل كامل خلال الربع الأول من العام 2026.

• تم الترخيص لعدد من الشركات والمصارف لتقديم خدمات المحول المالي والموسسات المالية للدفع عبر الموبايل للتعاون مع المصارف في تطوير الخدمات المالية.

 

خامساً: آفاق إعادة الإعمار المصرفي في السودان

هنالك تغييرات على مستوى المصارف و قيادة البنك المركزي ومراجعة الأنظمة واللوائح والقوانيين المنظمة للعمل المصرفي في السودان بمثابة تعافٍ وإصلاح تدريجي، تشمل:

• تحسين السياسات الاقتصادية وبيئة الأعمال.

• تطوير البنية التحتية التقنية والرقابية.

• تعزيز الرقابة المصرفية وتقليل المخاطر.

• الاستثمار في تدريب الكوادر البشرية.

• وضع خارطة طريق للتحول الرقمي

وتتمثل التحديات المستقبلية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ومواكبة تطورات التكنولوجيا المالية، والامتثال للمعايير الدولية، وتعزيز الشفافية والمساءلة.

أما فرص التعافي، فتتمثل في:

• الاستثمار في البنية التحتية الرقمية المصرفية.

• تحسين جودة الاتصالات لضمان استمرارية الخدمات على مدار الساعة.

• توسيع تقديم الخدمات المصرفية الإلكترونية دون قيود زمانية أو مكانية.

• تعزيز الشراكات الدولية وفتح الاعتمادات وتحسين الثقة في النظام المصرفي.

 

في الختام:

إن إعادة إعمار القطاع المصرفي السوداني تمثل حجر الزاوية في تعافي الاقتصاد الوطني، وتستلزم رؤية استراتيجية متكاملة يقودها بنك السودان المركزي بالتعاون مع المصارف التجارية والجهات ذات الصلة، بما يضمن بناء قطاع مصرفي حديث، وقادر على دعم التنمية الاقتصادية المستدامة في مرحلة ما بعد الحرب.

أخبار من نفس الفئة